مظهر شاهين يكتب: الجيش المصري الصامد… درع الوطن وسيف الأمة


منذ أن خطّ التاريخ أولَ سطور البطولة على ضفاف النيل، وُلد جيش مصر العظيم، درعُ الوطن وسيفُ الأمة، حارسُ الحضارة وركيزةُ الاستقرار.
جيشٌ لم يكن وليدَ ظرفٍ، ولا قوةً طارئةً نشأت كردّ فعل، بل هو امتدادٌ لإرثٍ خالدٍ من التضحية والانتصار، تأسّس على عقيدةٍ متجذّرةٍ في ضمير الأمة، تتمثل في حماية الأرض والعِرض، والانحياز الدائم للشعب، والدفاع عن مقدّرات الدولة مهما اشتدّت الخطوب أو تعاظمت التحديات.
عبر آلاف السنين، ظلّ الجيش المصري عنوانًا للبأس والانضباط، من جيوش الفراعنة التي حمت حدود مصر شمالًا وجنوبًا، إلى جيوش الدولة الإسلامية التي شاركت في الفتوح، وحمت بيضة الإسلام من التتار والصليبيين، ثم إلى الجيش الحديث الذي خاض معارك التحرير ضد الاستعمار، وسجّل صفحاتٍ مشرقةً من النضال الوطني في حروب فلسطين وعدوان 1956.
غير أنّ محنةَ 1967 كانت مفصلًا قاسيًا في الذاكرة القتالية، كشفت حجم التحدّي؛ لكنها في الوقت ذاته فجّرت أعظم طاقات الصمود، حين بدأ الجيش يخوض واحدةً من أشرف معاركه: حرب الاستنزاف، التي استمرّت ثلاث سنواتٍ كاملة، دفع فيها أثمانًا غاليةً في الأرواح والجهد والتخطيط، لكنها كانت المدرسةَ الكبرى التي أعادت للجيش ثقته، ومهّدت لواحدةٍ من أعظم الانتصارات في التاريخ العربي الحديث.
وفي السادس من أكتوبر عام 1973، حقق الجيش المصري مجدًا خالدًا حين عبر القناة، وحطّم خط بارليف، وقهر الغرور الصهيوني المدجّج بالسلاح، وأثبت للعالم أن مصر لا تُقهر إذا قررت القتال دفاعًا عن الحق.
كانت ملحمةُ أكتوبر تتويجًا لصبرِ سنوات، وتخطيطِ عقول، وتضحيةِ رجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وارتقوا شهداء في ميادين الشرف، ليرفعوا راية مصر فوق أرض الكرامة والعزّة.
وفي مرحلة لاحقة، قاد المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة مرحلةَ التطوير والتوازن، ثم حمل المشير محمد حسين طنطاوي مسؤولية القيادة في لحظةٍ فارقةٍ عقب ثورة يناير، فحافظ على تماسك الدولة ومؤسساتها، ومنع انزلاق البلاد إلى الفوضى.
ثم تسلّم القيادة من بعده المشير عبد الفتاح السيسي، فكان خيرَ خلفٍ لخيرِ سلف، وقائدًا أدرك حجم التحدّي التاريخي، فانحاز بكلّ شجاعةٍ ووضوحٍ إلى إرادة الأمة في بيان الثالث من يوليو عام 2013، الذي مثّل لحظةً فارقةً في التاريخ المصري الحديث، وأعاد مصر إلى شعبها وهويتها وعمقها العربي، وفتح الطريق لمرحلةٍ جديدة من استعادة الدولة واستنهاض مؤسساتها.
وبعد أن تولّى رئاسة الجمهورية، أعاد المشير عبد الفتاح السيسي هيكلةَ القوات المسلحة، ورفع كفاءتها القتالية، وطوّر منظوماتِ التسليح بجدارة، حتى أصبحت القوات المسلحة المصرية واحدةً من أقوى جيوش العالم، وأكثرها انضباطًا واستعدادًا وردعًا، بفضل قيادته الواعية، ورؤية الدولة الاستراتيجية لأمنها القومي ومكانتها الإقليمية والدولية.
ولم يكن هذا التطوير هدفًا عسكريًا بحتًا، بل ضرورة فرضتها التحديات الجسيمة التي واجهت الدولة المصرية بعد 2011، حين دخل الجيش معركةً جديدة من نوع مختلف: معركة الحفاظ على الدولة من التفكك والانهيار.
فمنذ عام 2011 وحتى اليوم، حمل الجيش المصري على عاتقه أعظمَ معركةٍ للدولة الحديثة: الحفاظ على كيانها وسط موجات الفوضى، ومواجهة الإرهاب والتطرّف، والتصدّي لمحاولات الانهيار من الداخل والتآمر من الخارج.
فعلى الحدود الغربية، فقد وقف سلاح حرس الحدود سدًّا منيعًا، وأحبط محاولات تسلّل العناصر الإرهابية، ومنع تهريب السلاح.
وعلى الجبهة الشرقية، تصدّى للأوكار التكفيرية في سيناء، وخاض رجالُ القوات المسلحة معارك شرسةً ضدّ عناصر الغدر، وقدّموا في سبيل ذلك قوافلَ من الشهداء.
ولم يكن الجيش بعيدًا عن قلب الدولة في لحظات الشدة، بل كان هو قلب الدولة.
ففي ثورتي 25 يناير و30 يونيو، لم يتخلّ عن مسؤولياته، بل انحاز للشعب، وصان مؤسساته، وحمى إرادته، ورفض أن تكون مصر ساحةً لصراع أهوج أو نزاع أهلي.
ومن رحم تلك اللحظات العصيبة، خرج الجيش أكثر انضباطًا، وأشدّ تماسكًا، وأقوى عزيمة.
وفي موازاة معاركه الخارجية والداخلية، لم يكن الجيش حاضنًا للسلاح وحده، بل كان حاضنًا للبناء والتنمية؛ فمدّ ذراعه إلى عمق الوطن، وشيّد المدن الجديدة، ومهّد آلاف الكيلومترات من الطرق والمحاور، وبنى صروح الصناعة والزراعة، وأسهم في ضبط الأسواق وتوفير الغذاء والدواء، وسدّ الفجوات التي كادت تهدد الأمن القومي من بوابة الاقتصاد.
لم تكن هذه المهام خروجًا عن اختصاصه، بل امتدادًا طبيعيًا لوظيفته الأسمى في حماية الدولة، لأن الحفاظ على الوطن لا يكون بالسلاح وحده، بل بالاستقرار الشامل الذي يُمكّن المواطن من العيش بكرامة، ويجعل الدولة قادرة على مواجهة التحديات من موقع قوة، لا من موضع عجز.
ومن تمام الوفاء والعدل، أن نذكر بالاحترام والإجلال رموزًا من القادة العظام الذين قادوا الجيش المصري منذ حرب الاستنزاف وحتى اليوم، فكانوا رجالًا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبصماتهم لا تزال حاضرةً في صفحات المجد؛ يتقدمهم الفريق عبد المنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، الذي ارتقى شهيدًا في الصفوف الأمامية فصار رمزًا خالدًا للفداء والعطاء، وتلاه الفريق محمد فوزي، وزير الحربية بعد نكسة يونيو، الذي أعاد بناء الجيش وبدأ مرحلة الصمود بحرب الاستنزاف، ممهدًا لطريق النصر.
ويأتي بعدهما الفريق أول سعد الدين الشاذلي، رئيس الأركان في حرب أكتوبر، وصاحب خطة العبور، والمشير أحمد إسماعيل علي، وزير الحربية وقائد المعركة، الذي أدار العمليات الاستراتيجية بكفاءة، والفريق محمد عبد الغني الجمسي، رئيس هيئة العمليات وصاحب خريطة العبور، الذي خطّط المعركة بإحكام، والفريق طيار محمد حسني مبارك، قائد القوات الجوية، الذي دشّن الحرب بضربته الجوية القاضية.
ومن القادة الذين جسّدوا معاني الوطنية والوحدة، اللواء فؤاد عزيز غالي، قائد الفرقة 18 مشاة، الذي قاد عملية تحرير القنطرة شرق باقتدار، وكان نموذجًا مشرفًا لوحدة الصف الوطني وشراكة الدم.
ولا نغفل قادة الجيوش الميدانية: الفريق سعد مأمون، قائد الجيش الثاني، والفريق عبد رب النبي حافظ، قائد الجيش الثالث، والفريق كمال حسن علي، الذي أسهم لاحقًا في تثبيت مكاسب الحرب، واللواء حسن أبو سعدة، بطل المزرعة الصينية، والعميد إبراهيم الرفاعي، قائد المجموعة 39 قتال، الذي زرع الرعب في قلب العدو واستُشهد في ميدان الشرف.
ومع هؤلاء القادة الأبطال، سطّر آلاف الضباط، وملايين الجنود، أنصع صفحات الشرف بدمائهم وتضحياتهم، فحملوا راية مصر عالية خفّاقة، وكتبوا بتضحياتهم ملحمة وطن لا ينكسر، فجزاهم الله عن هذا الوطن خير الجزاء، وجعل ذكراهم حيّة في ضمير الأمة، ودماءهم الطاهرة مشاعل لا تنطفئ في دروب الكرامة.
ولن يكتمل الوفاء، إن لم نَنْحَنِ احترامًا وإجلالًا أمام أرواح الشهداء من رجال القوات المسلحة، الذين قدّموا أرواحهم فداءً للوطن، في كل ميادين الشرف والبطولة.
من معارك التحرير إلى مواجهة الإرهاب، ومن ثغور الحدود إلى عمق الوطن، كانوا حيث يجب أن يكون الشرفاء: في المقدّمة، لا يسألون عن أنفسهم، بل عن راية الوطن أن تظل مرفوعة.
هؤلاء الشهداء ليسوا أرقامًا في سجلات المجد، بل شموسًا لا تغيب، ونماذج لا تُنسى، ومعالم خالدة في ذاكرة الأمة.
كل قطرة دمٍ نزفوها كانت ثمنًا لحياةٍ كريمة، وأمانٍ مستقر، ووطنٍ لا ينكسر.
فحقٌّ علينا أن نذكرهم، ونترحّم عليهم، ونسيرَ على دربهم، حفظًا للعهد، ووفاءً لدمائهم الطاهرة.
وقد تُوّج كل ذلك باعترافٍ عالمي، وإجماعٍ إقليمي، بأنّ الجيش المصري بات ركيزةً صلبةً للاستقرار، وقلعةً حصينةً لا تُقهر في وجه التحديات.
لقد باتت قوةُ الجيش المصري حقيقةً راسخةً في ميزان القوى الإقليمية والدولية؛ لا بفعل التعداد فقط، بل بفضل العقيدة، والانضباط، وبسالة الجندي، وشجاعة القادة، والرؤية الاستراتيجية للقيادة السياسية.
فالعالم كله أصبح يُجيد قراءة هذه الحقيقة، ويضع لمصر ألف حساب، وهي تقف بجيشها المتماسك قوةً لا تُقهر، وصمّام أمان للمنطقة بأسرها.
وسيظلّ هذا الجيش، بإذن الله، صخرةً لا تلين، وسدًّا لا يُخترق، قائمًا على الحق، متجذرًا في قلب الأمة، وجنودُه ثابتون على العهد، لا يتبدّلون ولا يتراجعون.
فيا أبناءَ مصر…
امضوا مع جيشكم كما مضى معكم، صامدًا في كل محنة، وفيصَلًا في كل اختبار.
لا تفرّطوا في الثقة به، فهو درع الوطن وسنده، وعزّه من عزّكم.
ادعموه بما تستطيعون، وادعوا له بما يستحق، فإنّ بقاءه صلبًا هو بقاء هذا الوطن حرًّا أبيًّا.
ويا أبناءَ العروبة…
ما غاب جيشُ مصر عن ساحاتكم يومًا، ولا تأخّر عن نداء العروبة ساعة.
فكونوا له كما كان لكم، سندًا وظهيرًا، وفاءً وعهدًا.
فهو سيفكم إن اشتدّ الخطر، وظهركم إن اهتزّت الجدران.
فاحفظوا له قدره، وابقوا قريبين منه، فإنّ في تماسككم معه قوةً للأمة كلها.